عادة التدريس بالأمازيغية أو بالحضرية
لا تذكر المصادر ما يشفي الغليل من التفاصيل الضرورية في ما يخص لغة التدريس بالمغرب الأقصى خلال العصر الوسيط، باستثناء بعض الإشارات المتفرقة التي يمكن أن يستنتج منها أن اللغة العربية الفصحى لم تكن اللغة المستعملة في حلقات الدروس، رغم أنها أصبحت لغة الدين والإدارة والعلم بعد الفتوحات الإسلامية، بل كانت اللغة المستعملة في التدريس هي اللغات الشفوية المتداولة في التخاطب اليومي مثل الأمازيغية والحضرية (اللهجة العامية) في بعض المدن التي تعربت شمال المغرب. ونعلم مثلا أنه في المجال المصمودي الذي كان يشمل المغرب الحالي قبل تعرب بعض أجزائه الشمالية الواقعة شمال نهر أم الربيع، استعملت اللهجة المصمودية، التي كانت تسمى باللسان الغربي، في التدريس، بل قاموا في أول الأمر بترجمة القرآن مرتين، مرة في القرن الثاني الهجري، على يد البورغواطيين، ومرة ثانية على يد حاميم الغماري، في سنوات 313 هـ ـ 315 هـ، وبعد ثلاثة قرون من ذلك، قام ابن تومرت بالتدريس باللسان الغربي في رباط هرغة، أوائل القرن السادس الهجري، ثم في تينمل بجبل درن، ومما يؤكد التدريس باللسان الغربي ما لاحظه أحد الطلبة الأندلسيين بسجلماسة في القرن السادس الهجري من أن فقيها مصموديا هو سالم بن سلامة السوسي (توفي 586 هـ) كان قديرا على أداء مسائل المدونة باللسان البربري، مما يعني أن التدريس بهذا اللسان كان معروفا بالواحات الصحراوية كذلك، ولم يكن المصامدة متفردين باستعمال لهجتهم الأمازيغية في التدريس دون بقية المجموعات القبلية الأمازيغية بالشمال الإفريقي، فقد استعملها كذلك أتباع المذهب الخارجي، إذ نعلم مثلا أن أقدم كتاب ألف بالأمازيغية في الدين هو كتاب مهدي النفوسي، أحد مشايخ نفوسة في بداية القرن الثالث الهجري، للرد على نفاث ابن نصر الذي طعن في سلوك الإمام أفلح بن عبد الوهاب، ومن أسباب تأليفه بالأمازيغية ما أورده الدرجيني في كتابه ''طبقات المشايخ بالمغرب''، حيث قال: ''إنما وضعها واضعها باللسان البربري ليتناقلها البربر، فكالهم بصاعهم ولم يطفف، ولم يبخس ولم يَعْدُ من الألفاظ ما يفهمونه، ولا أغرب ولا أعرب بحيث يتوهمونه، كما أن الشيخ أبا مكدول الزنزفي، في النصف الأول من القرن الخامس، كان أكثر ما يروى عنه باللسان البربري''.
ومن الدلائل الإضافية على التدريس باللسان الغربي، ما وصلتنا من المصطلحات التعليمية التي استعملها المصامدة، مثل مصطلح ''تينمل''، عوض مصطلح المدرسة العربي، والذي سمي به مكان انطلاق الدعوة الموحدية، واستعملوا ''أنمال'' عوض المُدرس، والذي أطلق على زاوية بتازة هي زاوية أنمال، ومصطلح ''وكاك'' الذي يطلق على الطالب الملم بالقرآن ومبادئ الدين، وهو اللقب الذي حمله وكاك بن زلو اللمطي شيخ عبد الله بن ياسين، فقيه المرابطين.
ويلاحظ أن قبائل المصامدة غير المعربة ظلت محافظة على عادة التدريس بلهجتها إلى ما بعد العصر الوسيط، كما يظهر من حالة عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي، الذي كان يدرس مهمات الدين بالعربية العجمية، كما كانت بعض الكتب الدراسية تؤلف أو تترجم إلى الأمازيغية وتدرس بها مثل كتب الفقه، كرسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل، وشرح البردة وغيرها، وما زال التدريس باللهجة المصمودية مستمرا إلى يومنا هذا المدارس العتيقة بسوس وفي شرق المغرب.
الحسين أسكان
''تاريخ التعليم بالمغرب خلال العصر الوسيط''، من منشورات المعهد الملكي للثقافة ا
15/2/2006
لا تذكر المصادر ما يشفي الغليل من التفاصيل الضرورية في ما يخص لغة التدريس بالمغرب الأقصى خلال العصر الوسيط، باستثناء بعض الإشارات المتفرقة التي يمكن أن يستنتج منها أن اللغة العربية الفصحى لم تكن اللغة المستعملة في حلقات الدروس، رغم أنها أصبحت لغة الدين والإدارة والعلم بعد الفتوحات الإسلامية، بل كانت اللغة المستعملة في التدريس هي اللغات الشفوية المتداولة في التخاطب اليومي مثل الأمازيغية والحضرية (اللهجة العامية) في بعض المدن التي تعربت شمال المغرب. ونعلم مثلا أنه في المجال المصمودي الذي كان يشمل المغرب الحالي قبل تعرب بعض أجزائه الشمالية الواقعة شمال نهر أم الربيع، استعملت اللهجة المصمودية، التي كانت تسمى باللسان الغربي، في التدريس، بل قاموا في أول الأمر بترجمة القرآن مرتين، مرة في القرن الثاني الهجري، على يد البورغواطيين، ومرة ثانية على يد حاميم الغماري، في سنوات 313 هـ ـ 315 هـ، وبعد ثلاثة قرون من ذلك، قام ابن تومرت بالتدريس باللسان الغربي في رباط هرغة، أوائل القرن السادس الهجري، ثم في تينمل بجبل درن، ومما يؤكد التدريس باللسان الغربي ما لاحظه أحد الطلبة الأندلسيين بسجلماسة في القرن السادس الهجري من أن فقيها مصموديا هو سالم بن سلامة السوسي (توفي 586 هـ) كان قديرا على أداء مسائل المدونة باللسان البربري، مما يعني أن التدريس بهذا اللسان كان معروفا بالواحات الصحراوية كذلك، ولم يكن المصامدة متفردين باستعمال لهجتهم الأمازيغية في التدريس دون بقية المجموعات القبلية الأمازيغية بالشمال الإفريقي، فقد استعملها كذلك أتباع المذهب الخارجي، إذ نعلم مثلا أن أقدم كتاب ألف بالأمازيغية في الدين هو كتاب مهدي النفوسي، أحد مشايخ نفوسة في بداية القرن الثالث الهجري، للرد على نفاث ابن نصر الذي طعن في سلوك الإمام أفلح بن عبد الوهاب، ومن أسباب تأليفه بالأمازيغية ما أورده الدرجيني في كتابه ''طبقات المشايخ بالمغرب''، حيث قال: ''إنما وضعها واضعها باللسان البربري ليتناقلها البربر، فكالهم بصاعهم ولم يطفف، ولم يبخس ولم يَعْدُ من الألفاظ ما يفهمونه، ولا أغرب ولا أعرب بحيث يتوهمونه، كما أن الشيخ أبا مكدول الزنزفي، في النصف الأول من القرن الخامس، كان أكثر ما يروى عنه باللسان البربري''.
ومن الدلائل الإضافية على التدريس باللسان الغربي، ما وصلتنا من المصطلحات التعليمية التي استعملها المصامدة، مثل مصطلح ''تينمل''، عوض مصطلح المدرسة العربي، والذي سمي به مكان انطلاق الدعوة الموحدية، واستعملوا ''أنمال'' عوض المُدرس، والذي أطلق على زاوية بتازة هي زاوية أنمال، ومصطلح ''وكاك'' الذي يطلق على الطالب الملم بالقرآن ومبادئ الدين، وهو اللقب الذي حمله وكاك بن زلو اللمطي شيخ عبد الله بن ياسين، فقيه المرابطين.
ويلاحظ أن قبائل المصامدة غير المعربة ظلت محافظة على عادة التدريس بلهجتها إلى ما بعد العصر الوسيط، كما يظهر من حالة عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي، الذي كان يدرس مهمات الدين بالعربية العجمية، كما كانت بعض الكتب الدراسية تؤلف أو تترجم إلى الأمازيغية وتدرس بها مثل كتب الفقه، كرسالة أبي زيد القيرواني ومختصر خليل، وشرح البردة وغيرها، وما زال التدريس باللهجة المصمودية مستمرا إلى يومنا هذا المدارس العتيقة بسوس وفي شرق المغرب.
الحسين أسكان
''تاريخ التعليم بالمغرب خلال العصر الوسيط''، من منشورات المعهد الملكي للثقافة ا
15/2/2006